كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْمَلُ النَّجَاحَ فِى الْحَيَاةِ، رَجُلاً أَوْامْرَأةً، صَانِعَاً، أَوْ زَارِعَاً، أوْ تَاجِرَاً، وَإِنْ اخْتَلَفِتِ الصُورَةُ الَتِي يَرْسِمُهَا كُلٌ لِغَايَتِهِ.
وَهُنَاكَ صِفَاتٌ كَثيَرَةٌ لَابَدَّ مِنْهَا فِى النَجَاحِ، بَعْضُهَا خَاصٌ بِنَوْعِ الْعَمَلِ الَذِى يَعْمَلُهُ الشَخْصُ ؛ فَالتَّاجِرُ تَلْزَمُهُ صِفَاتٌ خَاصَّةٌ لِنَجَاحِهِ قَدْ لَا يَتَطَلْبَهَا نَجَاحُ الْعَالِمِ أَوْ الْأَدِيبِ، وَهُنَاكَ صِفَاتٌ عَامَّةٌ لَابُدَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا كُلُّ مُرِيِدٍ لِلَنَّجَاحِ، والنَّجَاحُ فِى الْحَيَاةِ - عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ - يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَخْلاقِ أَكْثَرَ مِمَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْعِلْمِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ تُجَّارٍ كِبَارٍ كَانُوا أُمِّيْينَ بَنَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَجْدًا فِى التِّجَارِةِ، وَنَجَحُوا فِيهَا نَجَاحَاً بَاهِرَاً بِجُهْدِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، وَحُسْنِ سُمْعَتِهِمْ، ثُمَّ رُزِقُوا أَوْلَادًا أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ فِى التِّجَارِةِ ؛ فَأَرْسَلُوهُمْ إِلَى الْخَارِجِ، وَنَالُوا الشَّهَادَاتِ الْعَالِيةِ فِى الْاقْتِصَادِ وَمَا إِلِيهِ ثُمُّ عَادُوا وَحَلُّوا مَحَلِّ أَبَائِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ، وَكَانَتِ النَتِيجَةُ أَنْ خَسِرَتْ تِجَارَتِهُمْ، وَأُقْفِلَتْ مَحَالُّهُمْ بَعْدَ إِفْلَاسِهِمْ، وَأَصَابَهُمْ الْفَقْرُ بَعْدَ الْغِنَى.
وَتَبَيَنَ أَنَّ آبَائَهُمْ الْأُمِّيينَ كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، وَلَيْسَ الْمَسْئُولُ عَنْ نَجَاحِ الْأَوَلِيِنَ وَفَشَلْ الْآخَرِينَ هُوَ الْجَهْلُ أَوْ الْعِلْمُ، وَ لَكِنْ الْأَخْلاقُ، فَالْأَبُّ عَلَى أُمِّيَّتِهِ كَانَ يُحْسِنُ الْأَخْلَاقَ الْتِي تَتَطَلْبُهَا التِّجَارَةَ، فَنَجَحَ، وَالْابْنُ لَمْ يُحْسِنُهَا فَفَشَلَ، وَلَوْ كَانَ الْابْنُ الْمَتَعَلِمُ فِي مِثْلِ أَخْلَاقِ أَبِيِهِ الْجَاهِلِ لَكُتِبَ لَهُ مِنَ النَّجَاحِ أَكْثَرَ مِمَّا كُتِبَ لِأَبِيِهِ، وَهَكَذا فِي كُلِّ نَوَاحِي الْحَيَاةِ.
قَدْ يَضْرِبُ النَّاسُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً بِقَوْمٍ فَاسِدِي الْأَخْلَاقِ نَجَحُوا فِي الْحَيَاةِ بِرَذَائِلِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْجَحْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِفَضَائِلِهِمْ، وَلَدِيْهُمْ أَمْثِلِةٌ كَثُيِرَةٌ ؛ فَالْمُوَظْفُ الْأَمِينُ عَاشَ عَلَى مُرَتَبِهِ الضَّئِيلِ، وَالْمُوَظْفُ الْخَائِنُ حَازَ الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ حَتَّى لَمْ تَعُدْ تُهِمَّهُ الْوَظِيفَةَ، ثُمَّ الْمُوَظْفُ الْمُتَمَلِقُ لِرُؤَسَائِهِ قَدْ يَرْقَى عَلَى أَكْتَافِ الْمُوَظْفِ الْمُسْتَقِيمِ.
قَدْ يَكُونُ هَذَا صَحِيحًا، وَلَكِنْ لَابُدَّ أَنْ تَحْسِبَ رَاحَةَ الضَّمِيرِ لِلْمُسْتَقِيمِ وَقَلَقِهِ عِنْدَ الْخَائِنِ، وَتَحْسِبَ احْتِقَارِ الرَّأْيِ الْعَامِ لِلْخَائِنِ وَاحْتِرَامِهِ لِلنَّزِيِهِ، وَتَحْسِبَ حِسَابَ الْمَسْئُولِيَةَ أَمَامَ اللهِ، وَتَحْسِبَ حِسَابَ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ قَلَّمّا يُفِيدُ صَاحِبَهُ وَأَوْلَادَهُ ؛ لَأَسْبَابٍ دِيِنِيِّةِ وَنَفْسِيَةِ وَاجْتَمَاعِيَّةِ، وَتَحْسِبَ حِسَابَ مَنْ ضُبِطُوا فِيِ حَيَاتِهِمْ، فَعُوقِبُوُا، فَخَسِرِوا الدَّنْيَا وَالْأَخِرَةِ ؛ فَلَوْ حَسِبُوا حِسَابَ هَذَا كُلِّهِ لَمَا سَمَّيْتَ هَذَا نَجَاحًا.
أَمَّا الْقَانُونُ الْعَامُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَهُوَ أَنْ النَّجَاحَ فِي الْحَيَاةِ يَتَوَقْفُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا اعْتِدَالٌ فِي الْحَيَاةِ، وَضَبْطٌ لِلنَّفْسِ، وَجِدٌّ فِي الْعَمَلِ، وَأَمَانَةٌ فِي الْعَمَلِ وَاعْتِمَادٌ عَلَى النَّفْسِ، وَثِقَةٌ بِهَا، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ، وَإِخْلَاصٌ لِنَفْسِهِ، وَلِلنَّاسِ، وَصِدْقٌ فِي الْمُعَامَلَةِ، تَنْجَحُ الْأُمَّةُ فِي عَالَمِ التِّجَارِةِ إِذَا حَسُنَتْ سُمْعَتُهَا، وَحَسُنَتْ مُعَامَلَاتُهَا، وَحَسُنَ إِنْتَاجُهَا، وَتَفْشَلُ إِذَا انْهَارَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ.
وَتَنْجَحْ فِي السِّيَاسَةِ إِذَا صَدَقَتْ فِي وُعُودِهَا، وَشَرُفَتْ فِي مُعَامَلَاتِهَا وَخَدَمَتِ الْإِنْسَانِيَّةَ بِأَغْرَاضِهَا ؛ فَإِنْ نَجَحَتْ بِغَيْرِ ذَلك فنجاح مؤقت، وَنَجَاحٌ كَنَجَاح المُوَظَّفِ الخَائِنِ، ثُمَ قَد يَنْجَحُ المَرْءُ في الحَياةِ بِسَبَبِ النُبُوغِ العِلمِي النَّادِرِ، أَو الذَّكَاءِ العَقْلِي اللَّامِعِ، أَو القُدْرَةِ الفَائِقَةِ عَلَى إِدْرَاكِ الفُرَصِ، وانْتِهَازِهَا وَلَوْ لم تَدْعَمْهَا الأخلاقُ الفِاضِلةُ، وَلكِنْ حَتَّى فِي هَذِةِ الأحْوَالِ النَّادِرَةِ لَو كَانَ لِهَذِهِ المَزَايَا الفَائِقَةِ مُسْتَنَدٌ مِنْ أَخْلَاقٍ فَاضِلَةٍ لَكَانَ صَاحِبُهَا أَكْثَرَ نَجَاحًا، فِالأخلَاقُ الفَاضِلَةُ تُقَوَيهِ وَتُقَوِّي نَجَاحَهُ، وَاَلأخلَاقُ السَّيْئَةُ تُضْعِفُهُ وَتُضْعِفُ نَجَاحَهُ.
إِنَّ الذَّكَاءَ اللَّامِعَ، والْعَقْلِيَّةَ الْقَويَّةَ، والْقُدْرَةَ علَى انْتِهَازِ الْفُرِصِ، ونَحْوِ ذَلِكَ لَوْ دَعَّمَتْهَا أَخْلَاقٌ فَاضِلةٌ لَتَوَجَّهَتْ إلى خَيْرِ صَاحِبَهَا وَخَيْرِ النَّاسِ، وَإِنْ هِيَ لَمْ تَرْتَكِزْعَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ كَانَتْ عُرْضَةً لِأَنْ تَتَّجِه لِلْعَمَلِ لِشَرِ النَّاسِ.
وهُنَاكَ خَطَأٌ يَجِبُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ، يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌمِنَ النَّاسِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ الْتِي تُسَبِّبُ النَّجَاحَ يَجِبُ أَنْ تَصْحَبَهَا اللَّبَاقَةُ أَوْ الْأَدِبُ فِي الْمُعَامَلَةُ أَوْ حُسْنُ الْمُجَامَلَةِ أَوْ مَا شِئْتَ مِنْ أَسْمَاءٍ ؛ فَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي فِي النَّجَاحِ إِذَا هِيَ اصْطَحَبَتْ بِجَفَافٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ خُشُونَةٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدِمِ ظُرْفٍ وَلَبَاقَةٍ ؛ قَدْ يَكُونُ التَّاجِرُ أَمِينًا مُسْتَقَيِمًا، وَلَكِنَّهُ خَشِنٌ غَيْرُ لَبِقٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُوَظَّفُ مُسْتَقِيمًا أَمِينًا جَادًا فِي عَمَلِهِ قَائِمًا بِوَاجِبَاتِهِ وَلَكِنَّهُ جَافٍ غَلِيظٌ فِي مُعَامَلَاتِهِ لِرُؤَسَائِهِ ولِلنَّاسِ، وقَدْ يَكُونُ الْأَدِيِبُ أَوْ الْعَالِمُ مُسْتَقِيمًا فِي سُلوكِهِ مُخْلِصَاً لأَدِبِهِ أَوْ عِلْمِهِ، وَلَكِنَهُ غَيْرُ لَبِقٍ فِي مُعَامَلَتِهِ لِمَنْ حَوْلَهُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَفْشَلُونَ فِي الْحَيَاةِ، وَالْحَقَيقَةُ أَنَّ فَشَلَهُمْ أَتَى مِنْ قِلَّةِ لَبَاقَتِهِمْ وَعَدَمِ ظُرْفِهِمْ، لَا مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِهِمْ.
والْلَبَاقَةُ، وَالْأَدَبُ، والظُّرْفُ فِي الْمُعَامَلَةِ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ الْأَخْلَاقِ، وهَذِهِ اللَّبَاقَةُ غَيْرُ الْكَذِبِ ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْأِنْسَانُ صَادِقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤَدَّبٌ لَبِقٌ.
وَشَأْنُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الرَّجُلِ فَالْمَرْأَةُ الْفَاضِلَةُ اللَّبِقَةُ أَكْثُرُ نَجَاحًا فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الْاجِتَمَاعِيَةِ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَيَاةُ جَحِيمًا وَلَيْسَ لِذَلَكَ مِنْ سَبَبٍ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ ـ مَعَ اسْتِقَامَتِهَا وَسُمُوِ أَخْلَاقِهَا ـ قَدْ حُرِمَتْ اللَّبَاقَةَ وَالظُّرْفَ، فَهِيَ تُسَبِّبَ بِعَدَمِ لَبَاقَتِهَا كُلَّ يَوْمٍ مُشْكِلَةً قَدْ يَصْعُبُ حَلَّهَا.
وَبَعْدُ ؛ فَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ مَعَ اللَّبَاقَةِ وَالظُّرِفِ وَالْكَيَاسَةِ عُدَّةُ النَّجَاحِ.
لتحميل المَلَف اضغط هُنا
0 التعليقات :
إرسال تعليق